بعد “خماسية الدوحة”… ترشيح قائد الجيش يتقدّم وأسهم فرنجية تتراجع
يستعدّ لبنان لأسبوعٍ مفصلي على المستوييْن السياسي والمالي – النقدي يُخشى معه أن تتوغّل أكثر العاصفة الشاملة التي تقبض عليه في ظل الانسدادِ الكامل في الملف الرئاسي بفعل «السواتر» الداخلية التي تزداد ارتفاعاً وعدم نجاح الخارج في تشكيل قوة ضغط كفيلةٍ بتفكيك المأزق العميق وهو ما يتطلّب تقاطُعات إقليميةً – دولية لم تتبلور بعد وربما لا تتبلور أبداً ليُترك للبنانيين أن «يقلعوا شوكهم بأيديهم» ويُمْسِكوا بزمام أمورهم وأزماتهم.
وبعدما كان الأسبوع الماضي انطبع باجتماع مجموعة الخمس حول لبنان في الدوحة ببيانها الذي عاود تأكيد أن الحلّ داخل لبنان ووفق الآليات الدستورية لانتخاب رئيس بعيداً من إطاراتٍ (لحوار أو غيره) تشكل خطراً على جمهورية الطائف وتوازناتها ومع تلويح بعقوباتٍ على مَن يَمضون في عرقلة الاستحقاق الرئاسي، تعيش بيروت أجواء استعداداتٍ لعودة الموفد الفرنسي جان – إيف لودريان إليها خلال الساعات الـ 48 المقبلة بعد نحو شهرٍ من الجولة الأولى من مَهمّة سيتبيّن مدى التراجعات فيها ربْطاً بالسقف العالي للقاء الخماسي في قطر والذي لم يقطع الطريق فقط على النسخة الأولى من مبادرة الاليزيه التي حاولت «تجريع» اللبنانيين خيار سليمان فرنجية (مرشح فريق الممانعة بقيادة «حزب الله»)، بل رَفَعَ بطاقة حمراء أيضاً بوجه أي آليات كان يؤسس لها لودريان لحوارٍ مسبق حول سلّة تسمح بفك أسر الرئاسة.
وتحلّ الزيارة المرتقبة للودريان، الذي كان عرّج على الرياض مرتين، عشية اجتماع الدوحة وغداته، فيما المخاوف تزداد من أن يشكّل الفتيل النقدي، الذي يُخشى أن يشتعل بقوة، مع الاستقالة المرتقبة لنواب حاكم مصرف لبنان الأربعة في الساعات المقبلة تمهيداً لتكليفهم تسيير المرفق العام وتَقاسُم مسؤوليات ما بعد انتهاء ولاية الحاكم رياض سلامة (31 يوليو) «مجتمعين»، جاذبة صواعق يتم على وهجها التحكّم بوجهة الأزمة الرئاسية ومحاولة تحديد «الزمان والمكان المناسبين» لطيّها بشروطٍ متفلتة مما وصفه «حزب الله» عبر قياديين فيه بـ «أفكار أميركية بصياغة خماسية» تضمّنها بيان اجتماع الدوحة «حيث لا يبتغى من وراء ذلك إلا فرض أوصياء يتجاوزون حواراً وطنياً لبنانياً، لأن وراء الأكمة ما وراءها»، محذراً الداخل والخارج «عليهم أن يتعلّموا من التجارب الماضية، وألا يجربوا المجرّب».
ولعلّ أكثر ما سيتم استكشافُه مع وصول لودريان، إلى جانب هل سيكون مبعوثاً لمجموعة الخمس (تضم الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر) بكل ما عبّر عنه بيان اجتماعها في قطر يوم الاثنين الماضي ما سيعني قلْب صحفة المبادرة الفرنسية المنفردة نهائياً، هو مدى الصعود الذي شهده اسم قائد الجيش العماد جوزف عون في السباق الرئاسي في ضوء ما رشح من لقاء الدوحة، وسط مؤشرات داخلية إلى أن «حزب الله» بات يعطي إشاراتٍ تشدُّد غير مسبوقة في مستواها حيال أي أفكار تتناول إمكان السير بخيار رأس المؤسسة العسكرية رئاسياً، وهو ما يوفّر تقاطُعاً نظرياً حتى الساعة له مع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الذي عادت قنوات التواصل بينه وبين الحزب والذي يتقاطع في الوقت نفسه مع غالبية المعارضة على رفْض وصول مرشح الممانعة سليمان فرنجية وهو ما جعله يسير بترشيح جهاد أزعور والتصويت له في جلسة 14 يونيو التي هُزم فيها فرنجية بالنقاط (8 أصوات أكثر من فرنجية).
والواقع أنه منذ أن عُيّن قائداً للجيش صار اسم العماد جوزف عون حُكْماً على لائحة مرشحي الرئاسة الأولى. وقبْله كان قائد الجيش العماد جان قهوجي مرشحاً من الصف الأول وساهم الفراغ الرئاسي بعد انتهاء ولاية العماد ميشال سليمان الرئاسية، في تزكيته.
وعلى مدى سنتين ونصف السنة ظل اسم قهوجي مطروحاً بقوة، في ظل معارضة مطلقة للتيار الوطني الحر له، علما أن علاقة قائد الجيش بالعماد ميشال عون وباسيل كانت أشبه بالقطيعة. وحين تسلم عون رئاسة الجمهورية في أكتوبر 2016 سنحت له الفرصة لتغيير قهوجي واختيار خليفة له شخصاً يثق به ويُعدّ من الضباط الموالين لرئيس الجمهورية منذ ان كان قائداً للجيش في الثمانينات.
لكن ومنذ وصول العماد جوزف عون إلى قيادة الجيش، ومع تعيين ضابط آخر موالٍ تقليدياً لرئيس الجمهورية ولقائد الجيش أي العميد طوني منصور مديراً للمخابرات، لم تعد العلاقة بين القصر الجمهوري واليرزة جيدة. وكان باسيل رئيس الظلّ في قصر بعبدا، وغالباً ما كانت تطلق عليه هذه التسمية، من جانب حلفائه وخصومه.
وقد رأى رئيس «التيار الحر» في قائد الجيش مرشحاً محتملاً للرئاسة، لكنه ارتأى أن يوافق عليه، مقابل أن يفرض إيقاعه على قيادة الجيش من خلال التعيينات ومطالب عدة تتعلق بالمؤسسة العسكرية. ولكن باسيل اصطدم بعون ومنصور على السواء، وشهراً بعد آخَر صارت العلاقة تصبح أقرب الى السيئة.
أول خلاف حقيقي حصل مع مطالبة باسيل لقائد الجيش بسلسلة تعيينات لضباط مقربين منه. وكان العماد جوزف عون يرفض هذه المطالب كونها تدخلاً في القيادة العسكرية ويُفهم منها انحيازاً الى ضباط معروفين بولائهم لرئيس «التيار الحر».
ثاني خلاف علني كان مع حادثة قبرشمون صيف عام 2019 التي حصلت تزامناً مع زيارة باسيل الى منطقة عاليه وسقط فيها ثلاثة قتلى، اثنان تابعان للحزب الديموقراطي برئاسة الامير طلال ارسلان. وكان باسيل برفقة مجموعة عسكرية تابعة للحرس الجمهوري آنذاك، لكن الجيش بقيادة عون تدخّل في شكل حاسم لمنع توسُّع الفتنة وتطويق ذيولها. وحين قطع رئيس «التيارالحر» زيارته الى الجبل كان يقطع علاقته مع اليرزة مقر قائد الجيش ومديرية المخابرات، وذلك حين اعتبر أن اداء الجيش كان ميالاً لصالح الحزب التقدمي الاشتراكي خصم التيار الوطني الحر ورئيسه.
وبدأ الخلاف الثالث مع تظاهرات 17 أكتوبر (2019) ولم ينتهِ بعد. فمنذ ذلك التاريخ اتّهم الرئيس ميشال عون وباسيل قائد الجيش بتسهيل التظاهرات والسماح باقتراب المتظاهرين من طريق القصر الجمهوري، وعدم فتح الطرق ولا سيما الشمالية منها المؤدية الى البترون مسقط رأس باسيل.
أما الخلاف الرابع فاندلع مع تعيين الياس أبو صعب وزيراً للدفاع عام 2019 واستمرّ مع وزير الدفاع الحالي موريس سليم، وهما المحسوبان على رئيس الجمهورية واللذين اصطدما مرات عدة مع قائد الجيش حول ملفات عسكرية داخلية.
هذه الخلافات التي حفلت بها أوساط الجيش والتيار الوطني الحر، تَكَرَّسَتْ أكثر مع انتهاء عهد رئيس الجمهورية قبل نحو 9 أشهر. وكانت خلفية الصدامات أن قائد الجيش أصبح من ضمن أسماء المرشّحين للرئاسة، في حين تراجعت أسهم باسيل منذ العقوبات الأميركية (نوفمبر 2020)، وبعد تزكية حزب الله والرئيس نبيه بري لخصمه سليمان فرنجية المرشح رقم واحد ثم… الوحيد.
وبعد لقاء اللجنة الخماسية الاثنين الماضي، عاد اسم قائد الجيش ليتصدر الكلام حول ما دار في الدوحة من محادثات تتعلق برئاسة الجمهورية. ومن البدهي القول إن معاودة طرح اسمه كمرشح مستقل، يثير نقزة التيار الحر الذي ينصرف منذ أشهر إلى معركة في اتجاهين: فرنجية وقائد الجيش. وهو اذ تمكن من التقاطع مع المعارضة على مواجهة فرنجية ونجح معها في إحباط وصوله، إلا أن معركته مع قائد الجيش لم يَظْهَر بعد أنها ناجحة.
لم يكن دعم فرنجية من فرنسا قابلاً للصرف عربياً أو أميركياً، ما ساهم في وقف حملته. لكن الدوحة ومصر تعطيان إشارات منذ ان بدأت المحادثات حول رئاسة الجمهورية في لبنان إلى تأييد قائد الجيش، وهما كانتا أيضاً داعمتين لوصول قائد الجيش العماد ميشال سليمان الذي انتُخب عقب اتفاق الدوحة (مايو 2008).
وقطر التي تربطها علاقة جيدة مع باسيل واستقبلتْه أخيراً والتي أصرّتْ رغم غياب رئيس للجهورية على تعيين سفير فوق العادة لها في لبنان هو الشيخ سعود بن عبدالرحمن آل ثاني الذي كان يتولى منصب رئيس الديوان الأميري منذ 27 أكتوبر 2020 (كان قبل ذلك يشغل منصب مساعد رئيس الديوان الأميري من 2019 إلى 2020)، لا تخفي تحبيذها وصول قائد الجيش ويتردّد أنها تستعد لايفاد مبعوث لها الى لبنان تحت هذا السقف، لا سيما بعد ما خلص إليه اجتماع الخماسية.
وبدورها لا تمانع الولايات المتحدة التي تدعم الجيش وتقدم لأفراده مساعدات عينية، وصول مَن تعتبره الأقرب إليها، كمؤسسة عسكرية أميركية التدريب والسلاح. أما فرنسا فكان لافتاً أنها للمرة الأولى أرسلت موفداً لها للقاء العماد جوزف عون أي لودريان خلال زيارته لبيروت قبل نحو شهر. ويبقى أن السعودية التي سبق واستقبلت عون لم تُبْدِ بعد أي موقف منه كما من غيره من المرشحين غير المحسوبين على حزب الله.
وفي هذه الصورة، يحاول باسيل التقاط ما يمكن التشبث به لمصلحة منْع وصول قائد الجيش.
لكن كلما اقتربت المسائل من حتمية الخيار تقول المعارضة إن باسيل قد يختار أهون الشرّيْن بين فرنجية وعون.
فالأخير يحظى بتأييد من «القوات اللبنانية» في حال وصل ترشيح أزعور الى حائط مسدود وفرضت التسوية النهائية اسم قائد الجيش. وهذا الأمر يضعه رئيس التيار الحر في الحسبان، خصوصاً ان بكركي لا تمانع وصول عون ما يعيطه تغطية مسيحية.
ومن الطبيعي أن أي مفاوضات مع باسيل ستشمل موقع التيار في العهد الجديد وفي الحكومة وفي قيادة الجيش وفي التعيينات من الفئة الاولى، ما يعني أن أي احتمالات قد يفتحها لقاء الدوحة في اتجاه اختيار اسمٍ غير مرشح «حزب الله» وغير مرشح خصومه، سيشرع باب المساومات من جانب الحزب والتيار، لأن كليهما في خندق واحد حتى الآن في رفض قائد الجيش، وإن كان اعتراض باسيل أشدّ تطلباً. ففي النهاية يتعلّق الأمرُ بموقع مسيحي وبالرئاسة الأولى التي لم يحصل عليها مَن كان رئيس الجمهورية السابق يعدّه لخلافته، لكن باسيل لن يتركها لغيره بسهولة.
المصدر : الراي الكويتية