ما لم تقله “الخُماسية” في بيانها
نداء الوطن
لا شكّ بأنّ بيان سفراء «الخماسية» الصادر على أثر الاجتماع الذي عقدوه بضيافة السفيرة الأميركية ليزا جونسون، خرج عن السياق التقليدي والعمومي للكلام والتعابير الدبلوماسية التي دأبت مكوّنات المجموعة على إطلاقها منذ بدء حراكها، وتحديداً منذ صدور بيان الدوحة الذي استند إليه ممثلو الدول الخمسة خلال بيان تذكيرهم اللبنانيين بضرورة إنجاز الاستحقاق الرئاسي.
المهم في هذا البيان هو إقدامه على وضع خارطة طريق رئاسية يأمل أصحابها في أن تلتزم القوى السياسية والكتل النيابية بمندرجاتها للانتهاء من هذا الملف الشائك والمعقّد، لتكون بذلك قد حسمت «الخماسية» الجدل وحددت موقفها من الطروحات الموضوعة على الطاولة، إن لجهة الموقف من الحوار والتشاور أو لجهة الموقف من الجلسات والدورات الانتخابية.
وهي رجّحت بنتيجة جولتها على القوى السياسية والاستماع إلى الكتل النيابية، كفّة المشاورات المحدودة النطاق والمدة، بين الكتل السياسية لتغلّبها على كفّة طاولة الحوار الرسمي التي يتبنّاها رئيس مجلس النواب نبيه بري. كذلك فعلت حين دعت إلى عقد جلسة انتخابية مفتوحة في البرلمان مع جولات متعددة، لتكون بذلك إلى جانب قوى المعارضة التي تتبنى هذا المطلب.
وهي بذلك تكون قد بلورت رؤيتها لـ»الآلية الانتخابية» بشكل مفصّل، لم يسبق أن قاربته من قبل، (بتوصية من السفير الفرنسي هيرفي ماغرو) لتعيد تزكية خيار المرشح التوافقي أو التقاطعي كما يحلو لبعض مكوناتها تسميته، حتى لو تركت الباب مفتوحاً أمام تعددية الترشيحات على نحو يخرجها من «مأزق» تبني مكوناتها أكثر من مرشح. إلّا أنّها بالنتيجة بدت وكأنها تضع الملعقة في فم الخائفين من تسوية خارجية تطيح الرئاسة أو تجعلها هدية على طبق الاتفاق الحدودي، لطمأنتهم الى أنّ الرئيس المقبل لن يسقط بمظلة تقاطعات عابرة للاصطفافات الاقليمية، وخلافاً لرغبة المسيحيين.
وما لم يُقل في هذه الآلية، ورد بين سطورها من خلال استنادها إلى مندرجات الدستور اللبناني، لتؤكد «الخماسية» من خلال تبنيها هذه الآلية أنّ الأزمة لا تكتسب طابعاً دستورياً ويمكن معالجتها بالعودة إلى «الكتاب»، لتؤكد بذلك حمايتها لـ «الطائف» ولتنسف بعض الأفكار «الانقلابية» الداعية لتوظيف هذه الأزمة والدفع باتجاه إجراء نفضة دستورية بحجة أنّ النظام استنفد كل مقومات بقائه وصار لا بدّ من تغييره وتطويره.
اذ يقول بعض المعنيين إنّ بيان «الخماسية» حمل في طيّاته رسالة مفادها أنّه لا مفرّ من اللجوء إلى الدستور لأنّ البحث عن تسويات كبيرة من شأنها أن تنتج نظاماً جديداً، غير مجد طالما أنّ لبنان لا يحتلّ سلّم الأولويات الدولية والإقليمية، وبالتالي لا بدّ من اقتناص الفرصة لإنجاز الاستحقاق بـ»التي هي أحسن» من دون «انتظار قاتل» من شأنه أن يزيد الوضع تعقيداً. ولهذا تصرّ «الخماسية» على تكثيف ضغوطها خلال الأسابيع المقبلة علّها تنجح في إمرار الاستحقاق من «خرم» الانتخابات الرئاسية الأميركية قبل حلولها، في نسخة منقحة عن الاستحقاق الماضي الذي سبقت تسويته السباق الأميركي بأسابيع قليلة.
أمّا بالنسبة للموعد المضروب، فبدا جلياً أنّ المجموعة أرادت إحراج القوى السياسية من خلال إبلاغ اللبنانيين في بيانها المكتوب، بأنّ بعض القوى السياسية أبدى استعداده لإنجاز الرئاسة وفقاً لجدول زمني محدد. ولكن هذا لا يعني أبداً أنّ «الخماسية» سجنت نفسها في المهلة الموثقة في البيان بدليل أنّ أحد دبلوماسييها لا يتردد في القول صراحة إنّه تعلّم من تجربته اللبنانية لينأى بنفسه على روزنامة المواعيد الافتراضية التي قد تطيحها القوى السياسية اللبنانية من دون أن يرفّ لها جفن.
الأهم من ذلك كله، هو أنّه سيكون صعباً على «الخماسية» التراجع عما خطتّه يدها، أقله في المدى المنظور، وهي بنتيجة هذا البيان قد زركت مكوناتها في زاوية الدفع باتجاه إنجاز الاستحقاق الرئاسي في الأسابيع المقبلة، أو في الأشهر القليلة المقبلة، وحمّلت نفسها مسؤولية أكبر في الانخراط بشكل موسّع في تفاصيل الاستحقاق اللبناني وزواريبه، في محاولة جديدة لفصل الرئاسة عن الوضع الجنوبي الذي بات ملتصقاً بوضع غزة التصاقاً عضوياً عجزت عن فصله الدول الغربية وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا.
ماذا عن اليوم التالي؟
حتى الآن، لا تصور محدّدٌ. ولكنْ هناك ثمة أفكار تداولها السفراء عما يمكن القيام به لاستثمار البيان وتحفيز الحراك الرئاسي من خلال استعادة دورة اللقاءات مع القوى السياسية والكتل النيابية، بالتوازي مع حراك مرتقب لكتلة «الإعتدال الوطني» التي شكّلت مبادرتها جزءاً من بيان «الخماسية». ويفترض أن يتمحور النقاش خلال المرحلة المقبلة، وفق المعنيين، على نقطتين: مواصفات المرشح الرئاسي التي يمكن أن تكون موضع التقاء بين القوى السياسية، وبرنامج العمل المنتظر منه. هذا مع العلم أنّ نتائج «الاختبار الخطي» الذي أجراه الموفد الفرنسي جان – ايف لودريان للكتل النيابية، تشكّل حصيلة متكاملة لمقاربات هذه الكتل ازاء المواصفات وبرنامج العمل، ويمكن الركون إليها لوضع تصور محدد.
وبعدما حسمت «الخماسية» النقاش بين القوى السياسية، ورفعت من شأن «الشرط التوافقي» في مواصفات المرشح الرئاسي، يقول المعنيون إنّ الاتجاه في المرحلة المقبلة هو الإشهار علنية من جانب مكونات هذه المجموعة بالخيار الثالث وذلك لقطع الشكّ باليقين وقطع الطريق على أي محاولة أو التفاف للعودة بعقارب الساعة إلى الوراء.
بالمحصلة، يبدو أنّ وقع البيان على أصحاب الشأن، لم يكن على المستوى المتوقع، خصوصاً وأنّ المقصود بالمواعيد المضروبة هو الثنائي الشيعي بعدما سبق للرئيس بري أن جاهر أمام سفراء «الخماسية» بجهوزيته لإنجاز الاستحقاق الرئاسي قبل نهاية شهر أيار، في المقابل صار ثابتاً على أجندة «حزب الله» أن لا رئاسة قبل وقف إطلاق النار، فيما يتبيّن أنّ التصعيد العسكري سواء في غزة أو الجنوب هو سيّد اللعبة.