قنابل موقوتة… أين الحلّ؟
كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
النزوح ليس مشكلة لبنان الوحيدة بالطبع لكنه يزيد السيء سوءاً. لأكثر من 21% من مجموع قاطنِي قرى وبلدات المتن، مثلاً، وصلت نسبة سوريّي الجنسية. فمقابل 700 ألف لبناني يسكنون قضاء المتن، ناهز عدد النازحين هناك 150 ألفاً. أرقام استدعت حثّ البلديات المتنية على التحرّك الفوري من أجل تطبيق الإجراءات الآيلة للحدّ من هذا الانتشار العشوائي وغير الشرعي في كثير من جوانبه. في بيروت، وإثر جريمة قتل الشرطي البلدي حسن العاصمي على يد أحد السوريّين، ثمة تحرُّك في سياق مشابه أيضاً.
الدخول خلسة؛ إقامات غير شرعية؛ مخالفة قانون العمل؛ اكتظاظ في الوحدات السكنية؛ سرقات وجرائم. واقع تعيشه معظم، إن لم تكن كافة، المناطق اللبنانية في ظل الانتشار غير المنظَّم للنازحين السوريّين فيها. التخوّف كان ويتأجّج من أن يمسي هؤلاء قنابل موقوتة تستغلّهم جهات في الداخل والخارج لأغراض مشبوهة يستدعي اتّخاذ خطوات فعّالة. نعلم أن الخارج والسلطة المركزية «غاضّة النظر»، فماذا عن السلطات اللامركزية؟ أواخر أيلول الماضي، قام النائب المتني، وعضو تكتّل الجمهورية القوية، رازي الحاج، بتوجيه كتاب إلى رؤساء البلديات (والقائمقامين) طالباً منهم التشدّد في تطبيق الإجراءات والتدابير للحدّ من التواجد السوري غير الشرعي. وفي منتصف الشهر الحالي، قام النائب البيروتي وعضو التكتّل نفسه، غسان حاصباني، بإطلاق مبادرة «كل مواطن خفير». الأخيرة عبارة عن تطبيق يتيح لأي مواطن تصوير أي مخالفة من قِبَل المقيمين بطريقة غير شرعية في العاصمة وتحميلها على منصّة مختصّة لمتابعتها من قِبَل الجهات المعنيّة. فهل هذا يكفي؟
«اللامركزية» تملأ الفراغ
البداية متنية مع النائب الحاج، الذي أشار في حديث لـ»نداء الوطن» بأن خطر الوجود العشوائي للنازحين السوريّين يتوزع على مستويات ثلاثة: مخالفة القانون على كافة الأصعدة وارتكاب بعض السرقات والجرائم؛ فلَتان أمني وتخوُّف من أن تقوم جهات داخلية أو خارجية باستخدام بعض المجموعات لغايات معيّنة؛ ومحاولة الاندماج السوري في لبنان ما ينسف الهويّتين اللبنانية والسورية معاً. «هذه المخاوف جعلتنا نتواصل مع عواصم القرار في الخارج، لكن موقف الأخيرة واضح إذ هي تعتبر أن النظام السوري يسعى، من خلال هذا الملف، إلى ابتزاز المجتمع الدولي. بالمقابل، نلحظ غياب أي سياسة داخلية في ظلّ تخبُّط السلطة المركزية المتمثّلة بالحكومة لناحية عدم تنظيم دخول النازحين، مذ كنّا نطالب بإبقائهم ضمن مخيّمات حدودية بإشراف الأمم المتحدة. وها نحن ندفع الثمن اليوم».
ويكمل الحاج أنه، بسبب تقاعُس الغرب كما السلطة المركزية عن القيام بأي خطوات فاعلة، كان التوجّه إلى البلديات هو الحلّ الوحيد المتبقي طلباً للتشدّد في تطبيق القوانين. فبعد أن قام وزير الداخلية، في أيلول الماضي، بإصدار سبعة تعاميم توجَّه فيها إلى المحافظين والبلديات لتنظيم الوجود السوري ضمن النطاق البلدي، عكف الحاج على إنجاز دراسة توضح كيفية قيام بلديات المتن بتطبيق هذه التعاميم لضبط التواجد السوري غير الشرعي في البلدات والقرى كافة. لكن هي مسؤولية مَن وضْع هكذا دراسات؟ «كنائبٍ، لدي مسؤولية تجاه المجتمع الذي أمثّل، ويحقّ لي التواصل مع السلطات المحلية والقيام بأي دراسة تهدف إلى تسهيل تطبيق الإجراءات التي اتّخذها وزير الداخلية في الأساس».
التشدّد ضروري
نستفسر أكثر عن تفاصيل الدراسة التي تتطابق الأرقام الواردة فيها مع ما بحوزة الأجهزة الأمنية المختصّة من معلومات. فَمِن أصل 53 بلدية في قضاء المتن، قامت 43 منها بتطبيق الإجراءات وتمكّنت من خفض عدد النازحين السوريّين فيها ما بين 25% و60%، وبالتالي تراجع عدد هؤلاء من 150 ألف نازح إلى ما يقارب 83 ألفاً. وإذا أخذنا بعين الاعتبار هامش خطأ يتراوح بين 10% و20%- كون البلديات تسعى دوماً لتقليص الأرقام- يكون عدد النازحين بحدّه الأقصى 95 ألف نازح. مع الإشارة إلى وجود 19 بلدة حالياً دون بلديات، ما يجعل من اتّخاذ التدابير فيها مهمة مستحيلة، رغم الإجراءات التي يقوم بها بعض المخاتير من خلال التواصل مع الأجهزة الأمنية، وهنا نذكر بلدة الفريكة على سبيل المثال لا الحصر. «إن اختيار النازح السوري للقرى والضِيَع له أسباب اقتصادية. فالتشدّد في تطبيق القانون سيدفعه إلى مغادرة لبنان والعودة إلى بلده. لكن للأسف هناك بلديات لا إمكانات لديها، وأخرى متقاعسة، وأخرى منحلّة مثل الفنار والضبيّة والجديدة – البوشرية – السدّ. ويبقى ساحل المتن، لا سيّما المنطقة الممتدّة بين برج حمود، النبعة، سن الفيل، الرويسات والزعيترية – الفنار، بحاجة لإجراءات أكثر جدّية بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية والقضاء. وسنعقد اجتماعات مكثّفة مع هذه البلديات من أجل التعاون معاً لتحقيق الأهداف المرجوّة من فرض تطبيق القانون»، كما يرى الحاج.
الدراسة، رغم أهميتها، تبقى منقوصة الفعالية ما لم تُعمَّم على كافة الأقضية والبلديات. لكن مما لا شكّ فيه أنه، وللمرّة الأولى، تمّ وضع مسار واضح لمتابعة أزمة النزوح المتدحرجة. «لا يجب أن تكون التدابير مجرّد موجات إعلامية مؤقتة، بل أن تُتابَع بخطوات عملية مستمرّة. فهناك بؤر أمنية في قضاء المتن بدأنا نعاين نتائجها، خصوصاً من الدورة إلى برج حمود، وتتعلّق بتفشّي الدعارة وتجارة المخدرات وغيرها. كما هناك مناطق فوق سقف الدولة، ومنها الرويسات والزعيترية حيث يمنع الوجود السياسي لأحزاب ومجموعات معيّنة فرض القانون وتطبيقه. لذا حان الوقت لوضع البلديات أمام مسؤولياتها».
بيت مري كمثال
بلدية بيت مري مثال عن بلديات نجحت في تقليص أعداد النازحين السوريّين ضمن نطاقها نتيجةً لتطبيق القوانين. رئيس البلدية، المحامي روي أبو شديد، يشرح في اتصال مع «نداء الوطن» الإجراءات التي كانت تنفّذها البلدية حتى قبل نشوب الأزمة السورية. «كنّا نقوم بمراقبة الورش حيث يتواجد العمال السوريّون، من خلال دوريات متواصلة وتعبئة استمارات، كما طلب نسخ عن بطاقات الهوية والأوراق الثبوتية. لكن، وبعد ارتفاع الأعداد في العام 2018، رحنا نتشدّد أكثر فأكثر في اتّخاذ تدابير تنظيمية للحؤول دون الاكتظاظ. فقُمنا بتنظيم العلاقة التأجيرية ومنَعْنا وجود أكثر من شخصين في الغرفة الواحدة، وأكثر من عائلة ضمن الوحدة السكنية، كما منَعْنا التجمعات والتنقلات ليلاً وطلبنا مغادرة كل من دخل مؤخراً لأن لا مجال لاستقبال المزيد من الأعداد». هذا التشدّد أجبر عدداً كبيراً من النازحين على مغادرة البلدة، فتراجع المجموع من 1400 إلى 850 حالياً من أصل 12 ألف مقيمٍ، شتاءً، و16 ألفاً، صيفاً.
نسأل عن تفاعُل السكان كما النازحين مع الإجراءات المطبَّقة، ويجيب أبو شديد بأن أكثر المتضرّرين هم الذين كانوا يجنون أرباحاً من تأجير منازلهم لأكثر من مواطن سوري يمكثون معاً بدلاً من تأجيرها لعائلة لبنانية واحدة، غير أن مصلحة البلدة تتغلّب على المصلحة الخاصة. أما عن السوريّين الذين يصفون التدابير المتَّخذة بالعنصرية، فيضيف: «هل يحقّ لأربعين لبناني أن يتشاركوا منزلاً واحداً في فرنسا مثلاً؟ المشكلة أن البعض يختبئ في ظلّ عباءة العنصرية في محاولة لعدم تطبيق القانون». على أي حال، الإجراءات في بيت مري لم تتوقف عند هذا الحدّ بل جرى إيقاف العمل بالدوام المدرسي المخصَّص للطلاب السوريّين في مدرسة البلدة الرسمية كونه «لم يعد باستطاعة البلدية تحمُّل أعباء الأولاد السوريّين وهي بالكاد تؤمّن متطلبات اللبنانيّين منهم. وبمجرّد خلق مجال للولد السوري كي يتعلّم، فكأن بنا نؤمّن له استقراراً يضمن بقاءه في لبنان. وهذا أمر مرفوض لأن إمكانيات لبنان الاقتصادية والديموغرافية لا تسمح بذلك».
أبو شديد اعتبر أن بقاء النازح السوري في أي بلدة كانت غير ممكن ما لم يكن هناك بيئة حاضنة له. من هنا كانت رسالته الأولى إلى المواطنين بالابتعاد عن الجشع المادي وعدم تأجير ممتلكاتهم لسوريّين يقومون بأعمال لا يجيزها القانون سوى للّبنانيّين حصراً، كفتح محلّات خضار وصالونات حلاقة وغيرها. أما رؤساء البلديات، فطالبهم بعدم مسايرة المواطنين في قراراتهم ومحاولة تأمين مصالحهم المادية لأغراض انتخابية بلدية، ذلك أن معظم اللبنانيّين المخالفين هم من الناخبين في نطاقهم البلدي. نداء بانتظار من يلبّيه.
دورٌ مساند لا حلّ بديل
من المتن ننتقل إلى بيروت حيث أطلق النائب غسان حاصباني مبادرة «كل مواطن خفير» منتصف الشهر الماضي. الهدف من المبادرة هو الحدّ من الحالات المخالِفة للقانون، لا سيّما من قِبَل من يتواجدون بطريقة غير شرعية هناك، وذلك من خلال توسيع القدرة على مراقبة المخالفات عبر إشراك المواطنين فيها. حاصباني لفت في اتصال مع «نداء الوطن» إلى التنسيق الدائم بين نوّاب التكتّل، خصوصاً في موضوع الوجود السوري غير الشرعي إيجاداً لسُبل التعاطي بإزائه بعيداً عن مظاهر العنصرية والتنظير والمزايدات والشعبوية. وبغضّ النظر عمّا كان عليه موقف «القوات» حيال معاناة الشعب السوري وتهجيره من أرضه عند بدء الأحداث في سوريا، إلّا أن المسألة، بحسب حاصباني، باتت تتعلّق بوجود غير قانوني لأفراد يعملون ويتنقّلون ويحملون السلاح من سوريّين وسواهم، في كافة المناطق اللبنانية وبأعداد متزايدة.
هذا الوجود بات في بعض ملامحه أقرب إلى ظاهرة هجرة اقتصادية أو تمدُّد أمني قد يكون منسَّقاً وغير بريء. وهو ما شجّع على إطلاق مبادرة «كل مواطن خفير» في ظلّ تضاؤل قدرات الأجهزة الأمنية وقلّة التمويل والتجهيز. «بما أن الدولة أرضٌ وشعبٌ ومؤسسات، يمكن للشعب أن يساند المؤسسات حين تكون بحاجة للدعم، لا أن يستبدلها ويمسك الأمن والقانون بِيَده. وبما أن القدرة على صيانة وتشغيل كاميرات المراقبة في بيروت أصبحت شبه معدومة، يمكن لكاميرات هواتف المواطنين أن تحلّ مكانها لتكون العاصمة خالية من المخالفات والفوضى». المبادرة ليست معقَّدة لكنها تبقى رهن تجاوُب الأجهزة الأمنية مع المعلومات التي ستوضع بين أيديها لغرض المتابعة. «حان وقت اتّخاذ إجراءات عملية تحدّ من التفلّت والضرر الذي قد ينتج عن مخالفة القانون. الوجود السوري، بشكل عام، تضخّم حجمه للغاية نسبةً إلى حجم لبنان، ما سينتهي لا محالة بخلل اقتصادي واجتماعي يصيب السوريّين واللبنانيّين على السواء»، كما يختم حاصباني.