كيف يتعامل القادة الأوروبيون مع أزمة الديون؟
اقتصاد سكاي نيوز عربية
تواجه الحكومات الجديدة في أوروبا تحديات واسعة، لا سيما وأنها تُنتخب في ظل تطلعات واسعة يلقيها الناخبون عليها لإدارة مشهد “التغيير”، بينما الوسائل المتاحة أمامها تعد “محدودة للغاية”.
هذا ما ذكره تحليل لصحيفة “وول ستريت جورنال” سلط الضوء على أحد أبرز التحديات القائمة في هذا السياق، وهو التحدي المرتبط بالدين العام، الذي اقترب من أعلى مستوياته في عدة عقود.
في كل من فرنسا والمملكة المتحدة، تجاوز الإنفاق الحكومي وعجز الميزانية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي مستويات ما قبل الجائحة بشكل كبير.
لا يزال النمو الاقتصادي باهتاً، وارتفعت تكاليف الاقتراض، وتتزايد المطالب على الخزانة العامة، من الدفاع إلى معاشات التقاعد.
كل هذا يعني أن ضبط الأمور المالية ــ تقليص الإنفاق أو زيادة الضرائب ــ سوف يكون ضرورياً، كما يقول خبراء الاقتصاد.
لكن الساسة لم يجهزوا الناخبين لهذا. بل على العكس من ذلك، فقد أشاروا إلى خطط إنفاق جديدة جريئة.
الوضع في فرنسا
في فرنسا، كان التجمع الوطني اليميني المتطرف، قد اقترح تخفيضات ضريبية شاملة وإلغاء الزيادة غير الشعبية التي أقرها الرئيس إيمانويل ماكرون في سن التقاعد، على الرغم من تراجع مسؤولي الحزب أخيراً عن بعض هذه الوعود. أما الجبهة الشعبية الجديدة، الذي حقق المفاجأة في الجولة الثانية من الانتخابات، فلديه أجندة أكثر طموحاً. تشمل تجميد الأسعار وزيادة كبيرة في الحد الأدنى للأجور، وهو ما يتطلب زيادة الإعانات والرواتب مع التنازل عن عائدات الضرائب (لتغطية تلك النفقات).
لم يناقش أي حزب فرنسي كيفية خفض العجز العام الذي بلغ نحو 5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام.
ارتفعت عائدات السندات الحكومية الفرنسية في الأسابيع الأخيرة مع استجابة المستثمرين بقلق لاحتمال زيادة حجم الاقتراض الفرنسي.
وفي مايو خفضت وكالة ستاندرد آند بورز تصنيفها للديون السيادية الفرنسية إلى AA-.
الوضع في المملكة المتحدة
في المملكة المتحدة، أشار حزب العمال العائد للسلطة بعد 14 عاماً من حكم المحافظين، والذي انتخب بأغلبية تاريخية، إلى أنه سينفق المزيد على الخدمات العامة بما في ذلك هيئة الصحة الوطنية المجهدة، على الرغم من أن مقترحاته الملموسة كانت متواضعة حتى الآن.
واتهم معهد الدراسات المالية، وهو مركز أبحاث في لندن، مؤخراً جميع الأحزاب الرئيسية، بما في ذلك حزب العمال، بالتملق للخيارات الصعبة في برامجها الانتخابية.
ونقل تقرير الصحيفة عن كبيرة خبراء الاقتصاد في معهد الدراسات المالية، إيزابيل ستوكتون، قولها: “من المتوقع أن يكون النمو مخيباً للآمال إلى حد كبير، ومن المتوقع أن تظل أسعار الفائدة على الديون مرتفعة. ويبدو هذا المزيج من الأمور أسوأ من أي برلمان آخر في تاريخ المملكة المتحدة بعد الحرب”.
الدين العام
ارتفع الدين العام في المملكة المتحدة إلى 104 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام من 86 بالمئة في عام 2019 و43 بالمئة في عام 2007.
في فرنسا، ارتفع الدين الوطني إلى 112 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي من 97 بالمئة في عام 2019 و65 بالمئة في عام 2007، وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي.
وبحسب كابيتال إيكونوميكس، فإن عجز الموازنة العامة يتجاوز مستويات ما قبل الجائحة بنحو 3 نقاط مئوية في الاقتصادات المتقدمة الكبرى. وقال نيل شيرينج، كبير خبراء الاقتصاد في الشركة، إن هذا يعكس جزئياً ارتفاع مدفوعات الفائدة، ولكن أيضاً زيادة الإنفاق الذي لم يعد مرتبطًا بالجائحة. وأضاف: “ليس هناك مجال كبير للتوسع المالي الكبير”.
ألمانيا على الخط
حتى ألمانيا، التي كانت نموذجا للحكمة المالية، تحولت إلى عجز كبير في الميزانية بدلا من الفوائض في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فبعد أشهر من المفاوضات الصعبة، أعلن الائتلاف الثلاثي المنقسم بقيادة المستشار أولاف شولتز الجمعة أنه وافق أخيراً على صفقة ميزانية للعام المقبل. والتزمت الصفقة بقواعد الاقتراض الصارمة في البلاد مع توفير بعض التدابير لتنشيط النمو الاقتصادي الضعيف وتعزيز الإنفاق العسكري.
إيطاليا
ورغم العجز الهائل الذي تعاني منه إيطاليا، فقد تجنبت رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني من حزب “إخوان إيطاليا” اليميني حتى الآن ثورة المستثمرين من خلال تخفيف خطط الإنفاق الخاصة بها وتبني نبرة تصالحية تجاه بروكسل، التي أعلنت أن إيطاليا، مثل فرنسا، تنتهك المبادئ التوجيهية للعجز.
ولكن قد لا يكون مثال ميلوني ممثلاً لما يحدث إذا تولى الشعبويون السلطة في أي بلد آخر. فقد وجدت دراسة أجريت في العام 2023 على 51 رئيساً ورئيس وزراء شعبوياً بين عامي 1900 و2020 أنهم يميلون إلى التعثر اقتصاديًا.
ووجد مانويل فونكي وموريتز شولاريك وكريستوف تريبيش من معهد كيل للاقتصاد العالمي، وهو مركز أبحاث ألماني، أنه على مدار 15 عامًا، انخفض نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي والاستهلاك بأكثر من 10 بالمئة في ظل الحكومات الشعبوية مقارنة بالحكومات غير الشعبوية، في حين كانت أعباء الديون والتضخم تميل أيضًا إلى الزيادة.
أدوات مختلفة
من جانبه، قال مدير المركز العالمي للدراسات التنموية والاقتصادية، صادق الركابي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن هناك طرقاً متنوعة يلجأ إليها القادة الأوروبيون لتحقيق أفضل النتائج في التعامل مع أزمة الدين:
سياسات التقشف كانت أحد أبرز الأدوات التي استخدمتها كل من إيطاليا و اليونان على سبيل المثال لمواجهة أزمة الدين حيث تم خفض الإنفاق العام وزيادة الضرائب لتحسين الميزانية.
فرنسا و إسبانيا لجأتا في وقت سابق إلى الإصلاحات الهيكلية من خلال تحسين الكفاءة في الخدمات العامة وتقليل الهدر المالي.
الأمر كان مختلفاً في البرتغال و أيرلندا، حيث تم إعادة هيكلة الديون وتحسين شروط السداد.
وأضاف الركابي: يحاول القادة الأوربيون التعامل مع أزمة الدين بشكل جماعي من خلال التعاون المشترك، وإنشاء آليات دعم مالي مثل “آلية الاستقرار الأوروبية” وتنسيق السياسات المالية بين الدول الأعضاء.
وتابع: “واجهت عديد من السياسات السابقة حملة معارضة من الأحزاب السياسية والمواطنين، ما أثار موجات احتجاج ضد إجراءات التقشف، في حين أن أصحاب السياسة المالية في أوروبا أصرّوا على المحافظة على حالة التوازن بين التقشف وتحفيز النمو في محاولة منهم لتوفير مستوى مقبول من الاستقرار الاجتماعي والخدمات و ضمان الاستدامة المالية”.
وشدد على أن الحفاظ على النمو الاقتصادي في أوروبا يعتبر تحدياً كبيراً، خصوصاً في ظل تقليل الانفاق الحكومي وتأثيره السلبي على الأفراد و الشركات.
وأفاد بأن أوروبا في المرحلة الحالية في حاجة ماسة إلى عدة عوامل لمواجهة أزمة الديون وتشمل:
ضبط الإنفاق من خلال تحسين كفاءة الخدمات.
زيادة الإيرادات من خلال نظام ضريبي عادل يحفز النمو ويستثمر في البنى التحتية و الطاقة الخضراء لتعزيز الاستدامة.
توفير فرص العمل وتحفيز النشاط الاقتصادي.
دعم الابتكار وزيادة الانتاجية.
تحسين التجارة الداخلية وإزالة الحواجز التجارية بين الدول الأعضاء لتعزيز السوق الموحدة.
الدول المتقدمة
وفي حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة “ACY” الدكتور نضال الشعار، إن ارتفاع حجم الدين العام للدولة مقارنة بالناتج المحلي هي معادلة لم يظهر مردودها السلبي سوى على اقتصاد الدول النامية مثل دول أميركا اللاتينية مقارنة بالدول المتقدمة التي لم تتأثر بشكل كبير على مدار السنوات الماضية.
وأضاف الشعار أن أغلب الدول الصناعية والمتقدمة حجم الدين العام فيها يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي، ورغم ذلك حتى اليوم لا تشكو من مشكلات جوهرية في وضعها الاقتصادي بشكل عام على سبيل المثال اليابان وأميركا وبعض دول أوروبا.
وعدد الشعار الأسباب التي أدت إلى ارتفاع حجم ديون الدول الأووربية خلال الـ 20 عامًا الماضية والتي شملت:
الأزمة المالية العالمية 2008، والتي أثرت بشكل كبير على اقتصادات هذه الدول.
جائحة كورونا في العام 2020 أحدثت هي الأخرى تغييراً هيكلياً في مفهوم العمل وتعامل الدولة مع الأزمات لازالت أبعاده حاضرة حتى اليوم.
الأحداث الجيوسياسية في العام 2022 وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا، والتي ألقت بظلالها على حجم الديون في هذه الدول.
وتابع الشعار أن الأزمات السابقة نجم عنها عدة نتائج سلبية تمثلت في:
ارتفاع مستوى الديون، وتدنى معيشة الكثير من دول الاتحاد الأوروبي بالتزامن مع انخفاض معدل الرواتب والأجور.
التسارع في ارتفاع مستوى الدين العام مقارنة بالناتج المحلي وهذه هي النقطة التي قد تبدو “الأخطر”، فالحكومات الأوروبية لم تكن قادرة على تحجيم مستوى حجم الدين مقارنة بالناتج المحلي وذلك بسبب ضعف السياسات الاقتصادية المتبعة من قبل هذه الدول.
هنا يظهر بعد هام وهو ضرورة تحقيق التوازن بين الشأن الاجتماعي والاقتصادي، وهو ما يتطلب قرارات مدروسة بعناية.
واستطرد الشعار: “برصد الواقع الاقتصادي فالولايات المتحدة حجم ديونها أعلى من الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك بريطانيا وفرنسا، لكن الفيصل أن الأولى تحتكر الدولار والثانية تحتكر الجنيه الاسترليني، أما فرنسا فوضعها مختلف فهي لا تحتكر اليورو وبالتالي فاقتصادها في خطر”.