“محور المقاومة” والحرب والخسائر غير المتوقَّعة!
كتب إيليا مغناير في “الراي الكويتية”:
ألقتْ “حرب الإبادة” الإسرائيلية على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الاول الماضي، الضوءَ على تقديرٍ إستراتيجي افتقر إلى الدقة في ما يتعلق بجهوزية رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو للانخراط في مواجهةٍ عسكرية تُعتبر الأطول والأكثر دموية على فلسطين في أقلّ من سنة واحدة تخلّلها قتلٌ ودمار غير مسبوقيْن.
ومع استمرار الحرب من دون نهايةٍ واضحة في الأفق، أصبح جلياً أن جميع الافتراضات والحسابات الإستراتيجية على الجانبين أدّت إلى نتائج غير متوقَّعة ومطوَّلة تميّزت بخسائر بشرية وإقتصادية ودمار شامل وبيئة جيو – سياسية عالية المخاطر لمنطقة الشرق الأوسط بأكملها وتحديات كبيرة.
تاريخياً، أظهرت إسرائيل ميلاً لتجنُّب الحروب المطولة خصوصاً إذا كانت الخسائر المدنية والاقتصادية والضغوط الدولية مرتفعة. ومع ذلك، فقد تبنى نتنياهو إستراتيجيةً عسكريةً أكثر عدوانية واستدامة لم تتوقع المقاومة الفلسطينية حجمها.
ويلعب السياقُ المحلي والسياسي لنتنياهو دوراً حاسماً في فهْم قراراته خلال هذه الحرب، إذ واجه تحدياتٍ سياسيةً كبيرة في الداخل، بما في ذلك محاكمات الفساد الجارية والاحتجاجات الواسعة النطاق ضد حكومته. وقدّم له الانخراطُ في حرب طويلة فرصةً لتوحيد إسرائيل تحت قضية مشتركة اسماها «الحرب الوجودية على جبهات عدة»، وذلك لتحويل الانتباه عن مشاكله الداخلية وتعزيز موقفه السياسي الذي جَرَفَ هذا المجتمع إلى تطرّفٍ لم يسبق له مثيل.
ولعلّ المقاومة الفلسطينية لم تأخذ في الحسبان كيف ستدفع هذه الديناميات الداخلية نتنياهو نحو خيار إطالة أمد الحرب بدل السعي لحل سريع. إذ رأى رئيس الوزراء الإسرائيلي في هجوم السابع من تشرين وسيلةً ضرورية لدعم قاعدته السياسية التي اهتزّت في المرحلة الأولى لقيادته.
كذلك، لم يكن متوقَّعاً أن يتحدى نتنياهو الإدارة الأميركية بهذا الشكل على الرغم من خلافات سابقة له مع رؤساء أميركيين. فهو قاوَمَ دعوات الرئيس جو بايدن لانهاء الحرب، والمطالبات الدولية بوقف إطلاق النار ليُظْهِر قدرته على إدارة الحرب وكذلك إدارة العلاقة مع أميركا في الوقت نفسه، من دون تعريض هذا التحالف للخطر، ويفرض على فريق بايدن الاصطفاف خلفه لتغطية تقلُّب مطالبه وشروطه لانهاء الحرب ونسْفه مسار المفاوضات.
واستطاع نتنياهو جذْبَ وزيري الحرب بني غانتس وغادي أيزنكوت منذ بداية «طوفان الأقصى» إلى حكومة الحرب المصغّرة ليكسب شرعيةً وغطاء محلياً ودولياً ويُبْقي أعداءه السياسيين قريبين منه ليدير الحربَ كيفما يرغب هو ويتخلّص منهم بعد استعادته الشعبية التي فَقَدَها منذ أشهر المعارك الأولى بسبب أخطائه ومسؤوليته عن السابع من أكتوبر.
ولم يكن متوقّعاً كذلك أن يتخلى نتنياهو عن جميع الأسرى الإسرائيليين بيد المقاومة الفلسطينية ويفضّل استرجاعهم (أو عدم إعادتهم) أمواتاً وليس أحياء بسبب رفضه الخضوع لشروط المقاومة بوقف الحرب والانسحاب من غزة. وهذا يشير إلى تمتُّع نتنياهو بدعم شعبي كافٍ ليتغلّب على المتظاهرين في الشارع أو الإضرابات أو الخسائر الاقتصادية المتراكمة وحتى أعداد القتلى والجرحى من الجنود الإسرائيليين من خلال هذه الحرب الدائرة، وهو ما يُعتبر في نظر رئيس الوزراء ثمناً مقبولاً يستطيع تحمُّله أكثر من وقف الحرب والانسحاب من القطاع. وهذا يشير إلى أن معنويات نتنياهو لم تضعف على الرغم من الهجمات السياسية والاعلامية الداخلية ولم يُجبَر على تقديم تنازلات سياسية، بل ذهب لفتح جبهات أخرى مع اليمن ولبنان وإيران لمواصلة القتال وتحفيز المجتمع الإسرائيلي على دعم قائد جريء لا يَخشى توجيه ضربات تحت الحزام للتوجه نحو هدف أهمّ وهو التخلص من «الخطر الفلسطيني» وتحويل أماكن وجوده في غزة وأجزاء من الضفة إلى مناطق يستحيل العيش فيها.
ورغم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجَماعية وقطع المياه والكهرباء والدواء وآلاف المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال بقرار سياسي من نتنياهو، لا تجد إسرائيل نفسها معزولةً دولياً ولا إعلامياً بشكل عام. بل فضّلت دول أوروبية عدة “قمْع” السكان الذين يؤيدون الشعب الفلسطيني ليصبح العلَم الفلسطيني والكوفية العربية رمزاً كافياً ليعرّض صاحبَه للمساءلة القانونية أو الاعتقال الموقت، وتفضّل دول لطالما تغنّت بـ «الديمقراطية» و«حرية التعبير» رمي القِيَم التي تنادي بها في مزبلة التاريخ من أجل حماية إسرائيل وتغطيةِ أعمالها الإجرامية المخالفة للقوانين الدولية.
وهذه ليست المرة الأولى يطول فيها صراعٌ في الشرق الأوسط إلى ما هو أبعد من التوقعات. فقد امتدت أطول حرب خاضتْها إسرائيل في لبنان من العام 1982 إلى عام 2000 على الرغم من تَجَنُّب إسرائيل عادةً الحروب الطويلة بسبب تكاليفها المرتفعة، ولكن مسرحها كان لبنان.
وعلى عَكْس حرب لبنان، كانت حروب إسرائيل الأخرى قصيرة نسبياً ولكن مكثَّفة مع تأثيرات سياسية وإقليمية. إذ استمرّت حرب الأيام الستة عام 1967 ستة أيام احتلت فيها شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان السورية. واستمرّت حرب الغفران عام 1973 أقلّ من ثلاثة أسابيع.
أما في عهد نتنياهو الذي تسلَّم السلطة عام 1996، فقد أشرف على عملية «عناقيد الغضب» مع لبنان التي استمرت 16 يوماً وعملية «عمود الدفاع» عام 2012 ضد «حماس» واستمرت ثمانية أيام.
أما عملية «الجرف الصامد» عام 2014 فقد امتدّت لـ 50 يوماً ضد غزة، وعملية «حارس الأسوار» (2021) 11 يوماً.
وقد ارتكز نهجُ نتنياهو على التعامل مع العمليات القصيرة والحاسمة التي تحدّ من الخسائر البشرية والاقتصادية والانتقادات الدولية، ما سمح له بإدارة ائتلاف حكومي يُبْقيه في السلطة ويعيده إليها ليصبح رئيساً للوزراء الأوحد الذي حَكَم إسرائيل أطول فترة زمنية، متفوّقاً على بن غوريون، مؤسس إسرائيل.
إلا أن حرب غزة حرفت نتنياهو عن نمَطه المعتاد كاشفاً في شكل غير مألوف عن استعداده للانخراط في حرب طويلة ومدمّرة من أجل بقائه السياسي، ليكشف خطأ الآخَرين في قراءة حدوده واستعداده للتدمير غير المحدود والانخراط في حربٍ لا نهاية لها. ويبدو أن الجانبين عالقان في مواجهةٍ مميتة غير قابلة للحل بسبب استعداد نتنياهو لجرّ أميركا وحلف «الناتو» خلْفه إلى حرب شاملة شرق أوسطية لا يرغب بها سواه من أجل بقائه هو في الحُكم. وهذه احتمالاتٌ لاتزال على الطاولة ما دام صراع نتنياهو للبقاء في السلطة قائماً.