لبنان

عودة في ذكرى 4 آب: أين القضاة والزعماء والشعب كله؟

4 آب, 2024

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس الياس عودة، قداسا في كاتدرائية القديس جاورجيوس، وأقام جنازا لراحة نفوس ضحايا 4 آب الذين سقطوا في مستشفى القديس جاورجيوس في بيروت.

بعد الإنجيل قال في عظته: “يأتي المقطع الإنجيلي الذي سمعناه اليوم بعد شفاء الرب يسوع للمجنونين في كورة الجرجسيين، التي بادل أهلها إحسان الرب بمطالبته بالرحيل عنهم (مت ٨: ٢٨-٣٤)، فغادرهم «وجاء إلى مدينته». يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: «مدينته هنا تعني كفرناحوم. ثلاث مدن استقبلت الرب يسوع: في ميلاده بيت لحم ومعناها “بيت الخبز”، التي تجسد فيها وقدم نفسه خبزا لكل جائع، وفيها أتى إليه البسطاء كالرعاة، والحكماء المتواضعون كالمجوس، أي اليهود والأمم. بعد عودته من مصر استقر في الناصرة التي معناها “الغصن” حتى يلتقي به كل من أراد الاتحاد به كما يتحد الغصن بالكرمة (يو ١٥: ٢). المدينة الثالثة هي كفرناحوم التي اختارها الرب موطنا له، ومعنى اسمها “بلدة التعزية أو الراحة”، والرب نفسه هو الموضع الذي تجد فيه كل نفس راحتها وتعزيتها».

أضاف: “عندما سمع أن الرب في بيت، «اجتمع كثيرون حتى لم يعد يسع ولا حول الباب». يقول آباؤنا القديسون إن المؤمن الحقيقي، متى حل فيه المسيح، كما في ذاك البيت، يجتمع حوله الناس مشتهين عطر المسيح ونوره المنبعثين من حياة هذا المؤمن وفضائله. المسيح خاطب الناس بالكلمة، بشرهم كمعلم، أما المؤمن الممتلئ من المسيح فيبشر بحضوره وحياته لأنه صار، بإيمانه المعبر عنه في كل ما يقول ويفعل، أيقونة حية للمسيح القائل: «ليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات» (مت ٥: ١٦).”

وتابع: “يروي لنا الإنجيليان مرقس (٢: ١-١٢) ولوقا (٥: ١٧-٢٦)، في سردهما للحادثة نفسها، أن أصحاب المخلع لم يستطيعوا الوصول به إلى السيد بسبب الجموع، لكن إيمانهم بالسيد الشافي ومحبتهم لصديقهم دفعاهم إلى حفر سقف البيت ليدلوا منه المخلع أمام السيد. الأساس، عند الإنجيليين الثلاثة، أن المريض العاجز وصل أمام السيد بسبب إيمان أصدقائه ومحبتهم، اللذين كان لهما أثر الشفاعة أمامه. من هنا، أهمية أن يحمل المؤمنون أثقال بعضهم فيتمموا بذلك «ناموس المسيح» (غل ٦: ٢). يقول القديس أمبروسيوس أسقف ميلان: «هل فقدت الأمل بسبب كثرة خطاياك؟ أطلب صلوات الآخرين من أجلك. إستدع الكنيسة فتصلي عنك، فإن الرب يتنازل من أجلها فيتحنن عليك ويشفيك».

وقال: “مقابل محبة رفاق المخلع نجد الكتبة الذين، عوض أن يفرحوا بشفاء المخلع ويعظموا أعمال الله، إتهموا الرب بالتجديف. هذا يعني أنهم لم يعرفوا من الله إلا ما رأوه بقصر نظرهم ويباس قلوبهم وظلام ضمائرهم، فيما كان عليهم أن يبادروا هم إلى حمل المخلع نحو السيد، وهم مدعو الأمانة لوصايا الله، وغايتها حمل النفوس المخلعة إلى الخلاص. الرب لم يبادل جفاء الكتبة وقسوتهم بالمثل ولا حتى بالإهمال، بل تنازل إليهم وعلمهم على مقدار فهمهم، هو الذي «يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون» (١تي ٢: ٤). كشف لهم قلوبهم عندما قال لهم «لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم»، مؤكدا بذلك أنه هو الله العالم خفايا القلوب وديانها. ثم أراهم، بما يناسب محدودية فكرهم المادي، أنه هو غافر الخطايا ومانح الشفاء التام، إذ تابع قائلا: «ما الأيسر: أن يقال مغفورة لك خطاياك أم أن يقال قم فامش». ثم فتح لهم باب التوبة الحقيقية والعودة إلى الله، عندما أمر المخلع أن يقوم ويحمل سريره ويذهب إلى بيته، فعاينوه واقفا معافى، حاملا سريره وعائدا إلى بيته الآمن الذي هو حضن الله.

أضاف: “نستذكر اليوم مصابا أليما أصاب قلب عاصمتنا بيروت منذ أربع سنوات، وأحرق مع البيوت والمؤسسات قلوب ساكنيها. أربع سنوات والجرح ما زال نازفا لأن التحقيق لم يكتمل والحقيقة لم تظهر والجاني لم يحاسب. أين النواب من الوعود التي قطعوها قبل الإنتخاب؟ أين المسؤولون من الواجب الملقى على عاتقهم؟ ألا تهز ضمائرهم جريمة أودت بحياة أبرياء بينهم أطفال في عمر الورود، وتدفعهم إلى كشف سرها ومعاقبة فاعليها؟ ألا يهتمون بأرواح المواطنين وآلام ذويهم؟ أين القضاة والمحامون والزعماء والشعب كله؟ ألا يدمي مشهد أهالي الضحايا قلوبهم. ولو كان أبناؤهم بين الضحايا هل كانوا يسكتون عن الجريمة ويتغاضون عن الحقيقة؟ ألا ترون وجوه أمهاتكم في وجوه الأمهات المعذبات؟ معيب السكوت عن جريمة بحجم عاصمة، ومعيب تقاذف المسؤولية عوض مساعدة القضاء على جلاء الحقيقة. ما نفع دولة لا قانون فيها ولا عدالة؟ وما دور المسؤولين إن لم يطبقوا القوانين ويعدلوا؟ متى ينتفض الجسم القضائي على السياسة والسياسيين ويمنع كل يد تمتد لتعطيل عمله وتشويه صورته ودوره؟ ومتى ينتفض على نفسه لينقي نفسه من بعض المرتهنين وفاقدي الضمير؟”

وتابع: “4 آب يوم أسود في تاريخ بيروت وفي الذاكرة. وهو جرح مفتوح لن يندمل ما لم تظهر الحقيقة. والحقيقة لا تضيع مهما طال الزمن. أملنا أن يستفيق الضمير ويبزغ نور العدالة ويحاسب كل مجرم كي لا تتكرر الجريمة. هنا أسأل كل مقصر أو مشترك أو مسبب للكارثة، أو عالم بخفاياها: لو كان أبناؤك بين الضحايا ماذا كنت فعلت؟ لذلك حاسب نفسك لتريح ضميرك أولا ثم اذهب إلى التحقيق وقل ما تعرف علك تساهم في كشف الحقيقة. بيروت، أم الشرائع، هل أصبحت عاجزة عن إنصاف أبنائها؟ وهل استقالت الدولة من واجب حماية أبنائها؟ في الدول الراقية يستقيل المسؤول أو يقال إذا حصل خلل في إدارته فكيف إذا حصل إنفجار أودى بحياة المئات وخلف دمارا ومصابين ما زالوا يصارعون الموت؟ عندنا لم يتزحزح أحد من المسؤولين من مركزه وما زالوا سيفا مسلطا على رؤوس المواطنين. متى يصبح لبنان دولة مقاومة من أجل الحق والعدل والخير؟”

وقال: “نصلي اليوم من أجل راحة جميع النفوس التي انتقلت في 4 آب 2020، أو بعد هذا التاريخ تأثرا بجراح ذاك اليوم المشؤوم. كما نصلي من أجل كل من لا يزال يعاني جسديا ونفسيا وماديا. نصلي من أجل الوصول إلى العدالة المنشودة في هذا الملف، وغيره من الملفات، كما نسال الرب أن يحمي وطننا من كل شر وتجربة وحرب وعدوان، ومن أي حادثة قد تخلف ما خلفه تفجير 4 آب من رعب وألم وخسارة ومرارة”.

وختم: “وفي عيد الجيش نرفع الدعاء من أجل أن يحمي الرب الإله جيشنا ويمنحه القوة ليبقى الحصن المتين لوطننا، والحامي الأمين لنا من كل خطر وشدة، والمدافع الوحيد عن بلدنا، آملين أن يبعد عنه قادة البلد خلافاتهم وانقساماتهم ويحافظوا على دوره وكرامته”.

شارك الخبر: