التعدّيات الشاطئية تترسّخ: بأيّة حال عُدت يا صيف!
كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
البداية – مثالاً لا حصراً – من الرميلة، وتحديداً منتجع “لاغوافا”. فقد تبيّن أن التصوينة المبنيّة على الأملاك العامة من الجهة الشرقية على حدود العقار رقم 8 من منطقة الرميلة العقارية/ قضاء الشوف، والمملوك من شركة الأراضي والمشاريع العمرانية ش.م.ل، قد تعدّت على الطريق العام بطول 21م طولي، كما على العقار 362 ملك الجمهورية اللبنانية بالردم والاستعمال. هذا إضافة إلى أن سكّة الحديد التي تمرّ وسط العقار قد اختفت بالكامل. التعديات هذه، وخلافاً للمادة 33 من قانون حماية البيئة رقم 2002/444، أدّت من بين ما أدّت، إلى إقفال الممرّ من الطريق العام إلى البحر ما عرقل الولوج الحرّ إلى الشاطئ (وهو حقّ مكرّس للمواطن)؛ بناء حائط بمحاذاة طريق صيدا القديمة؛ إقفال مجرى المياه الشتوي؛ طمر سكّة الحديد وردم الشاطئ.
بناء عليه، وبتاريخ 25/01/2024، تقدّمت جمعية “الأرض لبنان” بشكوى أمام النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان. فتحرّكت على أثره المدّعية العامة الاستئنافية، القاضية غادة عون، التي – استناداً لتقارير الخبراء المحلّفين وبعد معاينتها للموقع بمؤازرة دورية من قوى الأمن الداخلي – أصدرت بتاريخ 05/06/2024 قراراً بإزالة المخالفة وهدم الحائط المبني وجرف الردم الذي يغطّي سكّة الحديد. كما ألزمت البلدية بتنظيف الأملاك العامة لتسهيل وصول المواطنين إلى الشاطئ. ورغم قرار القاضية عون، يؤكّد وزير الأشغال العامة والنقل، علي حمية، أن الحائط يقوم بتدعيم الطريق ولا يجب هدمه بعكس ما جاء على لسان الخبراء كافة. على أي حال، لا يزال الحائط قائماً حتى الساعة وقرار عون بات مجهول المصير بعد أن كُفّت يدها الأسبوع الماضي عن الملفات التي تحقّق فيها. ويبقى شاطئ الرميلة بانتظار من يحرّره من قبضة المخالفات… والمناكفات.
“على عينك يا تاجر”
من الرميلة إلى منطقة تحوم البترونية. هناك تجرى أعمال جرف وردم أمام العقارين 204 و205 من منطقة تحوم العقارية من دون إعداد دراسة تقييم الأثر البيئي. هذا الموقع، للعِلم، يُعتبر حسّاساً بيئياً ويقع قرب نبع بلدة تحوم المجاور للبحر والذي يُعدّ مقصداً مجانياً لأبناء البلدة والمنطقة ولعدد كبير من السّياح منذ زمن طويل. وهو يقع بمحاذاة صخور طبيعية تُعرف بـ”الصخر العالي” وتُشكّل امتداداً لصخور بلدة كفرعبيدا والمعروفة بأهميّتها البيئية والإيكولوجية. والمستغرَب، حتى الآن، هو غياب أي تحرُّك من قِبَل وزارة البيئة أو حتى المدّعي العام البيئي، القاضي غسان باسيل، لوضع حدّ للمخالفة.
نكمل جولتنا الساحلية. وهذه المرة نتوقّف عند شاطئ كفر كدّة الجبيلي، الذي يقع ضمن منطقة تُعرف بتنوّعها البيولوجي، حيث تجرى أعمال حفر محاذية للشاطئ بموجب رخصة حفر منتهية الصلاحية ودون دراسة تقييم أثر بيئي أيضاً. وعلى أثر الشكوى التي تقدّمت بها جمعية “الأرض لبنان” في آذار الماضي تحرّكت دورية لقوى الأمن الداخلي وقامت بتسطير محضر ضبط بحقّ صاحب المشروع وإلزامه بإعادة الحال إلى ما كانت عليه وإجباره على سحب الآليات من الموقع. لكن، حتى الساعة، لم تُعرف خلفية الأعمال التي كان من المقرّر إنجازها وما إذا كان سيتابع تنفيذها لاحقاً ودائماً بغياب الدراسة المذكورة. فهل من يراقِب؟
أنقذوه…
صرخة أخرى أطلقتها فعاليات منطقة البحصة على أثر مخالفة ارتكبها منتجع البحصة – جبيل على شاطئ Byblos Marine. فقد أعطت وزارة الأشغال إذناً باستقدام 60 نقلة صخور، ما يؤكّد أن الأعمال التي كان يُفترض إجراؤها هي ردم الشاطئ لتدعيم حائط الحماية البحري للمجمّع ومنع حقّ الولوج إلى الشاطئ، ما من شأنه تآكُل الموقع وتدهوره خلافاً للمادة 33 من قانون حماية البيئة. الأعمال تسبّبت بتدمير حوالى 3 آلاف متر مربّع من الشاطئ الأثري – الحسّاس بيئياً والمصنَّف منطقة مهمة للتنوّع البيولوجي – في تجاهُل واضح للتشريعات البيئية ولقانون حمايتها، ودون إجراء دراسة تقييم أثر بيئي، أيضاً وأيضاً، قبل الحصول على الرخصة. ورغم قرار القاضية عون بإيقاف الأعمال الجارية إلى حين إعداد الدراسات اللازمة، إلّا أن الضرر قد وقع والدراسات لا تزال في مهبّ الريح.
مزيد من المخالفات
وإلى فصل آخر من فصول التعدّيات الشاطئية. هذه المرّة من شاطئ رأس الشقعة – حامات في قضاء البترون، وتحديداً تحت دير سيّدة النورية. هناك تجري أعمال حفر وتشويه، كما بناء حائط يحجب الرؤية ويعرقل الولوج إلى الشاطئ، من قِبَل منتجع سياحي قديم مخالف وغير مكتمل. المنطقة حسّاسة بيئياً ومهمة أثرياً. كما أنها مدرجة لتكون محمية بحرية من قِبَل وزارة البيئة، ومصنَّفة كموقع مهم للتنوّع البيولوجي وللنباتات والأراضي الرطبة. هذه الأعمال، إضافة لمخالفتها المادة 33 من قانون حماية البيئة لناحية احترام حقّ الولوج الحرّ إلى السواحل والشواطئ، فهي تخالف أيضاً القرار 144 الصادر في حزيران 1925 والذي يمنع الإشغال الدائم للأملاك العامة ويكرّس حقّ العامة بالولوج الحرّ إلى الشاطئ. وبما أن الأعمال إياها تستوجب دراسة تقييم الأثر البيئي، تحرّكت وزارة البيئة بعد أن رفعت الجمعيات الصوت وأصدرت قراراً طلبت فيه من وزير الأشغال العامة والنقل سحب التراخيص المعطاة لأصحاب المشروع بانتظار إعداد الدراسات المطلوبة. كما طلبت من بلدية حامات وقف الأعمال بشكل تام. وكانت قوى الأمن الداخلي قد أزالت فوراً الحائط الذي حجب منظر البحر وأعاق الولوج الحرّ إلى الشاطئ، غير أنها لم تتمكّن من توقيف باقي الأعمال كونها مرخصة من وزارة الأشغال، ما استدعى تدخّل وزارة البيئة.
بين الأشغال والبيئة
انتصار للجمعيات البيئية التي تلعب دوراً فاعلاً في مراقبة الشاطئ اللبناني والتوجّه إلى القضاء بناء لشكاوى المواطنين وحثّ وزارة البيئة على التحرّك لقمع المخالفات بعد التحقق منها. لكن يبقى السؤال موجّهاً لوزارة الأشغال العامة والنقل حول أسباب التمادي في إعطاء رخص غير قانونية للقيام بأعمال على طول الشاطئ دون تقديم دراسة تقييم الأثر البيئي. ففي ذلك تعدّ واضح وفاضح على قانون حماية البيئة ومرسوم أصول تقييم الأثر البيئي، خصوصاً – والأهمّ – أن الشاطئ منطقة حسّاسة بيئياً. طبعاً، محاولات التواصل مع الوزير حمية للوقوف عند رأيه في هكذا مسائل غالباً – لا بل دائماً – ما تبوء بالفشل.
نسأل وزير البيئة، ناصر ياسين، حول مصير قرار القاضية عون المتعلّق بمخالفات منتجع “لاغوافا” في الرميلة. ونستفسر ما إذا كان المخالفون قد تقدّموا إلى الوزارة بدراسات تقييم الأثر البيئي المطلوبة كما عن أسباب تخطّي وزارة الأشغال العامة والنقل موافقة وزارته قبل منح الرخص. فاكتفى ياسين بالقول: “لقد تحرّكت الوزارة على صعيد الشكاوى التي وصلتها والمتعلّقة بالتعدّي على الشواطئ”. تحرُّك مشكور.
محاسَبة محلية… ودولية؟
لمزيد من التفاصيل حول واقع الشاطئ اللبناني، تواصلت “نداء الوطن” مع الخبيرة القانونية في مجال البيئة، الدكتورة جوزيان يزبك. وذكّرت بداية بأن لبنان انضمّ إلى اتفاقية برشلونة سنة 1977 وعاد وصدّق سنة 2009 على تعديلاتها. “للبنان التزامات تجاه هذه الاتفاقية، حيث تقع على عاتقه مسؤولية التطبيق. وهي تفرض عليه حماية المتوسط والشواطئ من التلوّث والقيام بتيسيرالتنمية المستدامة للمناطق الساحلية وحفظها لمنفعة الأجيال الحالية والمقبلة. كما أن هناك بروتوكول الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية، والذي انضمّ إليه لبنان فعلياً سنة 2017. وهذا يحتّم علينا الكثير من الالتزامات كون المعاهدات تُوقَّع كي تُطبَّق”. وأبدت يزبك أسفها تجاه عشوائية البناء والاستثمارات والتعديات الشاطئية كما عدم احترام القوانين وفرضها من قِبَل الجهات الرسمية المختصّة (وأوّلها وزارتا البيئة والأشغال).
لكن من يحاسِب على عدم تطبيق الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية؟ “كلبنانيين، يمكننا في حال وجود أي تعدّي على الشاطئ التقدّم بشكوى أمام القوى الأمنية أو المحامي العام البيئي أو مجلس شورى الدولة. كذلك، فإن مجلس شورى الدولة مخوّل النظر في عدم احترام الدولة للاتفاقية أو البروتوكول الذي انضمت إليه”، تجيب يزبك. وتكمل لافتة إلى أنه بإمكان الجمعيات البيئية تقديم شكاوى إلى لجنة الامتثال لاتفاقية برشلونة. فبعد دراسة مدى مقبولية الشكوى، تقوم اللجنة بعرضها للتحقيق. وفي حال عدم الامتثال، تُعِدّ اللجنة تقريراً بالتوصيات وتحيله إلى اجتماع الأطراف المتعاقدة، فتتبنّاه الأخيرة وتحيله بدورها إلى الحكومة، شرط أن تكون هذه الجمعيات قد استنفدت مختلف طُرق الشكاوى المتاحة لها داخل لبنان.
“هناك مساعٍ جدية مع مركز الأنشطة الإقليمية لبرنامج التدابير ذات الأولوية (PAP/RAC) / الأمم المتحدة برنامج البيئة لاقتراح قانون الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية. لكن، إلى ذلك الحين، تبقى التشريعات الموجودة المتعلّقة بإشغال الشاطئ قديمة جداً تعطي أولوية للاستثمار على حماية البيئة”، كما تختم يزبك.
بالمناسبة، يرد في نصّ المادة 45 من قانون الموازنة العامة فرْض غرامة تصل إلى 35 ألف دولار على المرخَّصين بإشغال أملاك عمومية بحرية مخالفين لمبدأ ولوج الشاطئ. فهل ثمة احتمال، بغرامات أو بدونها، بإعادة الحال إلى ما كانت عليه وتعويض الخسارات التي أصابت ذلك الشاطئ المسكين؟ شاطئ دُمّر 80% منه ويترنّح المتبقّي على شفير انهيار الرقابة والمحاسبة.