الأسر اللبنانيّة: صراعٌ للبقاء
كتبت زينب حمود في “الأخبار”:
تُضطرّ أسرتان من خمس في مختلف أنحاء لبنان، إلى بيع ممتلكاتها من أجل توفير سبل البقاء على قيد الحياة، بعدما كانت أسرة واحدة فقط من خمس تفعل ذلك خلال العام الماضي، بحسب نتائج الاستطلاع الذي أصدرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف» في الشهر الماضي. لم يُذكر نوع الممتلكات التي تُباع، ولا قيمتها المادية، لكن نتائج الاستطلاع تقدّم صورة مقلقة عن طبيعة التكيّف مع مفاعيل الأزمة وما تسبّبه من استنزاف لما تبقّى من ثروة الأسر وآخر مواردها في مواجهة الفقر.
على مدى أكثر من أربع سنوات من عمر الأزمة النقدية والمصرفية، حاول المقيمون في لبنان، التكيّف مع مفاعيل الأزمة ضمن الحدّ الأدنى من المرونة. أي إن بيع ممتلكاتهم لم يكن الخيار الأول، بل حصلت محاولات أخرى على جانبي الدخل والنفقات، من ضمنها البحث عن دخل إضافي، أو تحويل الدخل إلى الدولار النقدي لأصحاب المهن الحرّة، وصولاً إلى التقشّف في المصاريف، والهجرة. لكنّ تضخّم الأسعار وتسارعه كان أكثر وطأة على قدرات الأسر، ولا سيما «في ثلاثة قطاعات هي: الصحة، التعليم، والهجرة» بحسب المستشار في التنمية أديب نعمة. ففي عام 2020 كان معدّل التضخم 85%، وفي السنة التالية بلغ 154.8%، ثم ارتفع إلى 171.2% في عام 2022، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يسجّل في نهاية عام 2023 نحو 296% (التضخّم التراكمي سجّل ارتفاعاً في الأسعار بنسبة 3857% منذ نهاية عام 2018 لغاية أيار 2023، أي تضاعفت الأسعار 38 مرّة، بينما سعر الدولار تضاعف 59 مرّة إذا اعتبرنا أنه شبه مثبت على سعر أقلّ من 95 ألف ليرة كما في آخر ثلاثة أشهر). ففي المقابل، لم تزدد الأجور بهذه النسب، بل انسحقت القدرات الشرائية للمقيمين في لبنان.
التكيّف الأقصى
في ظل هذا التضخّم الهائل، ظهرت آليات التكيّف لدى الأسر، خارج حدود التخلّي عن الممتلكات، بلا جدوى كبيرة. فالأزمة لم تؤدّ إلى التضخّم فقط، بل خلقت انكماشاً اقتصادياً هائلاً، فيما أحجمت السلطة السياسية عن تصحيح الأجور بما يتناسب مع التدهور في القوّة الشرائية.
لذا، فإن لجوء الأسر إلى ما تملكه من ثروة احتياطية هو آلية التكيّف القصوى، سواء كانت ممتلكات عقارية، أو ذهباً، أو سيارة… فعلى سبيل المثال، ريم باعت خاتم الذهب عندما احتاج والدها إلى عملية جراحية وتقول: «لم يكن هناك متّسعٌ من الوقت لأقصد الجمعيات، ولو وضعت راتبي بالكامل لا يكفيني لتغطية المبلغ الذي تطلب المستشفى إيداعه قبل الدخول، لذلك لم أجد أمامي غير هذا الخيار».
وخلال أزمة المازوت التي أدّت إلى انقطاع التيار الكهربائي عن المنازل، لم تجد كثير من العائلات اللبنانية غير مدّخراتها من الذهب لشراء نظام طاقة شمسية. «تخلّت النساء عن حليّها وأساورها لتركيب ألواح الطاقة الشمسية بعدما توقفت مولدات الكهرباء عن العمل نهائياً»، بحسب سناء من الدوير. إلى جانب ذلك، ثمة من باع سيارة، سواء كان لديه أخرى أو اكتفى بلا وسيلة نقل واستعمل رأس المال بعدما أصبح عاجزاً عن احتمال كلفة الصيانة والتشغيل. كريم، مثلاً، باع سيارته واستثمر الأموال في استكمال بناء منزل. فعلها قبل أن تحلّ الأزمة وتتهاوى قيمة راتبه في مؤسسة الجيش وترتفع أسعار مواد البناء.
وهناك من تخلّى عن ممتلكات لم يخطر على باله يوماً أن يعرضها للبيع أو أن يجد من يشتريها. فمنذ سنتين، أنشأت صابرين ثلاث مجموعات على واتساب من أجل «بيع أي شيء مستعمل بدءاً من الحذاء إلى الطنجرة والفناجين والألعاب والسرير وصولاً إلى محرّك سيارة». وتؤكد أن «حركة البيع قويّة، ويزداد الناس الذين يعرضون أغراضاً ما عادوا بحاجة إليها أو يتخلون عن أغراض لأنهم بحاجة إلى ما هو أهم منها، مثلما تخلّت سيدة عن سجادة في الشتاء لتشتري بثمنها سترات وأحذية شتوية لأحفادها». تختلف الاحتياجات التي تدفع الناس لبيع مقتنياتها: «هناك سيدة باعت جهاز طفل كامل مقابل 5 ملايين ليرة واشترت بها كتباً وقرطاسية، وأحياناً تكون المطالب بسيطة جداً، إذ قصدتني سيدة مسنّة ومعها كيس من الملابس تريد بيعها لتحضّر لابنها القادم من الخدمة العسكرية طبخة يحبّها».
من أجل الغذاء أولاً
يشير نعمة، إلى أن ثلاثية (الصحة، التعليم، الهجرة) باتت تمثّل أعباء كبيرة على الأسر. «الكلفة الصحية الكبيرة تدفع الأسر إلى التنازل عن الطبابة أحياناً. وتبيّن في أرقام الإحصاء المركزي، أن عدد الذين لديهم تأمين صحي تراجع من 20% إلى 13%. لكنّ هناك قدراً من المرونة في القطاع التعليمي مع وجود تعليم رسمي كان سيستوعب عدد تلاميذ أكثر لو أنه منتظم، ومع زيادة المنح الدراسية في الجامعات وتقديم الجهات الدولية والحزبية مساعدات مالية تعليمية»… استجابت الأسر الفقيرة للأعباء التي باتت تترتب عليها، تدفعها إلى «بيع أشياء بسيطة لتأمين حاجات أساسية تتعلق بالغذاء والخدمات العامة التي لا توفّرها الدولة كالكهرباء والماء والاتصالات والنقل، خصوصا أن أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية هي الأكثر تضخّماً كما ظهر في أرقام الإحصاء المركزي (ارتفع مؤشّر الغذاء من 111.2 في كانون الأول 2018 إلى 19805 في نهاية أيار 2023، أي بزيادة نسبتها 17742%). الغذاء صار همّاً كبيراً لدى الأسر وسط تزايد في الأعباء. لكن حركة التخلّي عن الممتلكات لا تظهر كثيراً في الإحصاءات الرسمية. فعلى سبيل المثال، لا يمكن رصد حركة التخلي عن العقارات باعتبارها مؤشراً على ما تواجهه الأسر. تسجيل الأملاك الخاصة في السجل العقاري، لا يترك انطباعاً حقيقياً عن دوافع هذه الحركة التي قد تكون تخلّياً عن ممتلكات بحسب الحاجة، أو رغبة في المضاربات العقارية استغلالاً لأسعار الصرف المتعدّدة، أو تهافتاً على التسجيل للاستفادة من الرسوم المنخفضة بالليرة.
يحاول صاحب شركة المقاولات والوساطة العقارية خالد ترمس، أن يقسّم الأزمة بين الفترة الممتدة من أوائل عام 2020 حتى منتصف عام 2022 والفترة التي تليها وصولاً إلى اليوم. «في الفترة الأولى، كان ثلثي عمليات البيع ناتج من حاجة مادية أو بداعي الهجرة، لذا كنّا نجد أسعاراً منخفضة وصفقات تسدّد بشيك مصرفي أو بالليرة اللبنانية. أما في الفترة التالية، فإن الحاجة لتغطية الدين دفعت عدداً قليلاً إلى بيع منزل أو محلٍّ تجاري أو مستودع أو أرض». بالفعل، ظهرت في الفترة التالية مقاومة في أسعار العقارات لا تنسجم مع وقائع الأزمة، وهي تعكس رغبات التجّار أكثر من كونها وقائع.
أيضاً قطاع المجوهرات يحاول أن يربط العمليات الجارية فيه بالأزمة النقدية والمصرفية المحلية. يقول نقيب تجّار الذّهب والمجوهرات نعيم رزق: «في عامي 2020 و2021، سجّل تهافت محلي على بيع الذهب، وصار الطلب على شراء الذهب الخام والمشغول أكبر من العرض منذ عام 2022 إلى اليوم لأنه أكثر قيمة من العملة الورقية الوطنية والأجنبية».
إذاً، هل كلام التجّار يعكس نتائج استطلاع اليونيسيف عن لجوء الأسر إلى بيع ممتلكاتها للبقاء على قيد الحياة؟ يجيب أديب نعمة: «كلا. فرغم أن تقرير اليونيسيف غير دقيق، إلا أن التجّار لديهم رأي يعبّر عن حالة السوق. العقار قطاع خاص يتأثر بعوامل أخرى، غير الحاجة للمال. وقد يكون المنزل والأرض وغيرهما من العقارات ضمن ممتلكات بيعت على نطاق ضيق، لكنها ليست المقصودة بالدرجة الأولى في تقرير اليونيسيف، وإنما ما يقصده الاستطلاع هو الممتلكات البسيطة وغير الثمينة على غرار طقم كنبات أو خاتم ذهب أو كتب أو قطعة ثياب…». في الخلاصة، يرى نعمة أن ما يروّجه التجّار انطلاقاً من مشاهد الزحمة في المطاعم والحجوزات في الشاليهات وسواها من مظاهر الترف للإشارة إلى أن «الأزمة انتهت»، هو وهم مضلّل لأننا في مرحلة «استقرار في الانهيار، أي لم تعد هناك تأرجحات حادّة، ولا سيما في سعر صرف الدولار». ومع أنّ «درجة الاضطراب هي أخفّ مما كانت عليه في بداية الأزمة، لكنّ هناك ميلاً متزايداً لدى الأسر نحو التقشّف والتخلّي عن الموارد من أجل الاستمرار».